كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر: إنه لا يحد ولكن يعزر، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم، ولا معرة تلحقه بذنب، لأنه غير مؤاخذ، ولو جاء قاذف الصبي بإقامة القاذف البينة على زناه، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له، ولغيره عن قذف من لم يبلغ. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية والعشرون: اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة أن القاذف إن كان عاميًا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى.
إن كان عالمًا بالعربية، وقال: إنما أردت بقولي: زنأت بالهمزة معناه اللغوي، ومعنى زنأت بالهمزة: لجأت إلى شيء، أو صعدب في جبل، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيمًا وهو صغير:
أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ** ولا تكونن كهلوف وكل

يصبح في مضجعه قد انجدل ** وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

ومحل الشاهد منه قوله: زنأ في الجبل أي صعودًا فيه، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري. ورواه هو وغيره على ما ذكرنا، قال: وقالت أمه ترد على أبيه:
أشبه أخى أو أشبهن أباكا ** أما أبي فلن تنال ذاكا

تقصر أن تناله يداكا

قاله في اللسان:
المسألة الثانية والعشرون: فيمن نفى رجلًا عن جده أو عن أمه أو نسب إلى شعب غير شعبه، أو قبيلة غير قبيلته. فذهب مالك: أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه، لأنه لم يدع عليها الزنا، ولم ينف نسبه عن أبيه، وإن نفاه عن جده لزمه الحد، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره، ولو أبيض لأسود. قال في المدونة: إن قال لفارسي: يا رومي أو يا حبشي، أو نحو هذا لم يحد. وقال ابن القاسم: اختلف عن مالك في هذا، وإني أرى ألا حد عليه إلا أن يقول: يا ابن الأسود، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد، وأما إن نسبه إلى حبشي كأن قال: يا ابن الحبشي والرومي أو يا ابن الرومي، فإنه لا يحد، وكذلك عنه في كتاب محمد، قال الشيخ المواق: هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس فانظره أنت اهـ.
وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسًا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك، وقد نص عليه ي المدونة، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب.
قال مالك في المدونة: من قال لعربي: يا حبشين أو يا فارسي، أو يا رومي فعليه الحد، لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه، ووجه كون من قال لرومي: يا حبشي مثلًا، لا يحد. أن الظاهر أنَّ مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله، وهو استعمال معروف في العربيةاه. ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه، بأن قال له: لست ابن جدك أنه لا حد عليه، لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لأجده، وكذلك لو نسب جنسيًا إلى غيره كقوله لعربي: يا نبطي، فلا حد عليه عنده على المشهور، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته، لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال، أو عدم الفصاحة، ونحو ذلك، فلا يتعين قصد القذف.
قال صاحب تبيين الحقائق: وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل لرجل من قريش: يا نبطي، فقال لا حد عليه اهـ. وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل: يا ابن ماء المساء أو نسبه إلى عمه أو خاله، خلافًا للمالكية، ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه، ونحوه أو زوج أمه الذي هو ربيبه، لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة، وقوله: ابن ماء الساء، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء، قالوا: وكان عامر بن حارثة: يلقب بماء السماء لكرمه، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر. قالوا: وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء، لحسنها وجمالها. وقيل لأولادها: بنو ماء السماء وهم ملوك العراق اهـ. وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير اهـ. ومذهب الإمام أحمد: أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه.
واختلف عنه فيمن نفى رجلًا عن قبيلته أو نسب جنسًا لغيره. قال ابن قدامة في المغني: وإذا نفى رجلًا عن أبيه، فعليه الحد نص عليه أحمد، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال إبراهيم النخعي، وإسحاق. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وحماد. اهـ.
وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة والمشهور عنه بما ذكرناه قريبًا، ثم قال ابن قدامة في المغني: والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته، ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا، فأشبه ما لو قال لأعجمي: إنك عربي، لو قال للعربي: أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه، وعليه التعزير نص عليه أحمد، لأنه يحتمل أنك نبطي السان أو الطبع. وحكى عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه والأول أصح، وبه قال مالك، والشافعي، لأنه يحتمل غير القذف كثيرًا فلا يتعين صرفه إليه، ومتى شيئًا من ذلك بالقذف فهو قاذف اهـ. من المغني.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يجد صاحبه لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية.
وقد ذكر ابن قدامة في المغني أن الأشعث بن قيس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «لا أوتي برجل يقول: إن قريشًا ليست من كنانة إلا جلدته». اهـ. وانظر إسناده.
المسألة الثالثة والعشرون: في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل: يا قرنان، أو يا ديوث، أو يا كشخان، أو يا قرطبان، أو يا معفوج، أو يا قواد، أو يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات، أو يا مخنث. أو قال لامرأة: يا قحبة.
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة فمذهب مالك: هو أن من قال لرجل يا قرنان لزمه حد القذف لزوجته أن طلبته، لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة، وكذلك من قال لامرأة: يا قحبة لزمه الحد عند المالكية، وكذلك من قال: يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات. كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية، كما تقدمت الإشارة إليه، قالوا لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان، وتجعل على بابها راية، وكذلك لو قال له: يا مخنث لزمه الحد، إن لم يحلف أنه لم يرد قذفًا فإن حلف أنه لم يرده أدب، ولم يجد. قاله في المدونة، وإن قال له: يا ابن الفاسقة أو يا ابن الفاجرة، أو يا فاجر، أو يا حمار ابن الحمار، أو يا كلب، أو يا ثور، أو يا خنزير. ونحو ذلك فلا حد عليه، ولكنه يعزر تعزيرًا رادعًا حسبما يراه الإمام، ومذهب أبي حنيفة: أنه قال له يا فاسق، يا كافر، يا خبيث، يا لص يا فاجر يا منافق، يا لوطي يا من يلعب بالصبيان، يا آكل الربا يا شارب الخمر، يا ديوث، يا مخنث، يا ابن القحبة، يا زنديق، يا قرطبان، يا مأوى الزواني أو اللصوص، يا حرام. أنه لا حد عليه في شيء من هذه الألفاظ، وعليه التعزير، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطًا، وأما لو قال له: يا كلب، يا تيس، يا حمار، يا خنزير، يا بقر، يا حية يا حجام، يا ببغاء يا مؤاجر، يا ولد الحرام، يا عيار، يا ناكس، يا مكنوس، يا سخرة يا ضحكة يا كشخان، يا أبله، يا مسوس، فلا شيء عليه في شيء من هذه الألفاظ عند الحنفية، ولا يعزر بها. قال صاحب تبيين الحقائق: لا يعزر بهذه الألفاظ كلها لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحوه ذلك، ولا يريدون به الشتيمة، ألا ترى يسمون به ويقولون: عياض بن حمار، وسفيان الثوري، وأبو ثور وجمل، ولأن المقذوف لا يلحفه شين بهذا الكلام، وإنما يلحق القاذف.
وكل أحد يعلم أنه آدمي، وليس بكلب ولا حمار وأن القذف كاذب في ذلك. وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله: يا كلب يا خنزير، لأنه يراد به الشتم في عرفنا.
وقال شمس الآئمة السرخسي: الأصح عندي أنه لا يعزر. وقيل: إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر، لأنه يعد شيئًا في حقه، وتلحقه الوحشة بذلك، وإن كان من العامة لا يعزر، وهذا أحسن ما قيل فيه، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير قوله: يا رستاقي ويا ابن الأسود، ويا ابن الحجام، وهو ليس كذلك. اهـ. من تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزيير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه. وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها، فالأظهر عندنا أنه يجب فيها التعزير، لأنها كلها شتم وعيب، ولا يخفى أن من قال لإنسان: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا تيس يا بقر إلى آخره، أن هذا شتم واضح لاخفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيهًا بليغًا ولا شك أن عاقلًا قيل له: يا كلب، أو يا خنزير مثلًا أن ذلك يؤذيه، ولا يشك أنه شتم، فهو أذى ظاهر وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة. وكونهم يسمون الرجل حمارًا أو كلبًا لا ينافي ذلك لأن من الناس من يسم ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به. والظاهر أنه إن قال لرجل: يا ابن الأسود، وليس أبوه لا أحد من أجداده بأسود، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه، وكذلك قوله: يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجامًا فهو قذف، لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس بينه وبين نسب كما هو قول المالكية ومن وافقهم.
وقال صاحب تبين الحقائق: وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلًا، فيدعه خالياص بها. وقيل: هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح. وقيل: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته اه منه.
وقال ابن قدامة في المغني: وإن قال لرجل: يا ديوث، أو يا كشخان: فقال أحمد: يعزر، وقال إبراهيم الحربي: الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته. وقال ثعلب: القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته. وقال: القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب، ومعناه عند العامة عند العامة مثل الديوث، أو قريب منه، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث، لأنه قذفه بما لا حد فيه.
وقال خالد بن يزيد، عن أبيه في الرجل يقول للرجل: يا قرنان إذا كان له أخوات، أو بنات في الإسلام ضرب الحد، يعني أنه قاذف لهن. وقال خالد عن أبيه: القرنان عند العامة من له بنات والكشخان: من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن، والقوَّاد عند العامة السمسار في الزنى والقذف بذلك كله يوجب التعزير، لأنه قذف بما لا يوجب الحد اهـ. من المغني. وقال في المغني أيضًا المنصوص عن أحمد فيمن قال: يا معفوج أن عليه الحد، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول: أردت يا مفلوج أو يا مصابًا دون الفرج ونحو هذا، فلا حد عليه، لأنه فسره بما لا حد فيه. وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به، وقال صاحب القاموس القرنان: الديوث المشارك في قرينته لزوجته اهـ. منه وقال في القاموس أيضًا: القرطبان بالفتح الديوث، والذي لا غيره له أو القواد اهـ. وقال في القاموس: والتديث القيادة، وفي القاموس تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر: الديوث وكشخه تكشيخًا قال له: يا كشخان اهـ. منه وهو بالخاء المعجمة وقال الجوهري في صحاحه: والديوث وهو الذي لا غيره له اهـ. منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه، فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير، لأجل الأذى ولا حد، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى، أو نفي النسب، وكان ذلك معروفًا أنه هو المقصود عرفًا، وجب الحد، لأن العرف متبع في نحو ذلك. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة والعشرون: في حكم من قذف محصنًا بعد موته، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في المدونة: من قذف ميتًا فلولده، وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك، ومن قام منهم أخذه بحده، وإن كان ثم من هو أقرب منه، لأنه عيب، وليس للأخوة، وساتر العصبة مع هؤلاء قيام، فإن لكم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام. اه بواسطة نقل المواق.